الهيئات المستقلة ووحش السلطة

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
05/05/2010 06:00 AM
GMT



برهن صديقي يحيى الكبيسي، في مقاله المنشور في (جريدة "العالم"، عدد 18 نيسان الماضي) تحت عنوان (مكرمة المقاعد التعويضية)، على أن الآلية التي اعتمدتها (المفوضيةُ العليا المستقلة للانتخابات) لاختيار الأشخاص الذين يشغلون ما يُسمّى في النظام الانتخابي العراقي (المقاعد التعويضية) في مجلس النواب، والتي تتمثل بتفويض الكيان السياسي باختيارهم كيفما يشاء، هي خرق للدستور، الذي تنص مادته (49/ أولاً) على أن أعضاء مجلس النواب يُنتخَبون "بطريق الاقتراع العام السري المباشر"، وهو ما يتعارض مع تفويض الكيان بـ (التعيين) أو (التزكية)، حتى وإن كان لعدد محدود من الأشخاص يشغلون عدداً محدوداً من المقاعد.

وعلى الرغم من الأهمية البالغة لهذا البرهان، فإنه لا يتجاوز مناقشة بيئة القيود أو الأطر القانونية التي تتحرك داخلها المؤسساتُ السياسية.

الأهم من ذلك، في تصوري، هو السياقات السياسية التي تعمل بها هذه المؤسسات، والتي تمثل العنصر الأكثر أهمية في تحديد قوتها وضعفها، التزامها وعدم التزامها بالقيود القانونية.

وفي اتجاه مواز لما قام به الكبيسي، ومن منظور سياسي لا قانوني، ربما تقدم لنا دراسةُ حالة مفوضية الانتخابات صيغة مثالية ونمطية لفهم دور السياق السياسي في التحكم باستقلالية عمل سائر الهيئات المستقلة، من قبيل (المفوضية العليا لحقوق الإنسان)، و(هيئة النزاهة)، (هيئة الإعلام والاتصالات)، و(ديوان الرقابة المالية)، وسواها من الهيئات التي تشكل ركناً جوهرياً في النظام الديمقراطي الناشئ في العراق.

لقد كانت مفوضية الانتخابات قد اعتمدت، أولاً، آلية لتوزيع المقاعد التعويضية تقوم على أساس الخاسر الأكبر من كل قائمة حاصلة على مقعد تعويضي، من جهة أن النظام الانتخابي المعتَمَد هو نظام القائمة المفتوحة. غير أنها سرعان ما تراجعت عن هذه الآلية، وتركت الحرية للكيان السياسي في اختيار مَن يشغل المقعد التعويضي الخاص به. وقد برّرت هذا التراجعَ بأن آلية الخاسر الأكبر تتعارض مع قانون الانتخابات لسنة 2005، الذي كشف الكبيسي، ببراعة، أن هذا القانون ـ بدوره ـ إنما يتعارض مع الدستور، الذي هو أعلى القوانين.

ومن ثم، لا يبدو مقنِعاً أن المفوضية تراجعت بسبب التعارض بين قانون الانتخابات والآلية التي اعتمدتها في نظام توزيع المقاعد، بما أن (القانون) أقوى من (النظام)، بحسب ما يقول رئيس مجلس المفوضين فيها، فرج الحيدري، بل لأنها لم تستطع مواجهة إجماع الكتل السياسية على أن تتولى هي توزيع المقاعد التعويضية بمزاجها، حتى وإن كان هذا الإجماع مخالفاً للدستور.

وفي العموم، تتقبل النظمُ التوافقية إجماعَ الكتل السياسية حتى وإن كان ذا ثغرات قانونية أو دستورية، من جهة أن هذه الكتل تعبِّر عن الهويات المتعددة في البلاد، ومن ثم، يشكل توافقها عنصراً حاسماً، وأكثر أهمية من القانون ربما، في ضمان السلم الأهلي.

لحظةُ الضعف هذه تعارضها وتقابلها لحظةُ قوة سابقة للمفوضية، تمثلت في وقوفها بوجه طلب إعادة العدّ والفرز يدوياً في خمس محافظات، الذي تقدم به (ائتلاف دولة القانون)، قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي، صاحب السلطة الأولى في البلاد، الذي كان قد هدّد وتوعّد ليُنفِذ إرادته، لأنه لم يستطع أن يستوعب أن عدد الناخبين الذين صوّتوا لقائمة منافِسة أكبر من عدد الذين صوّتوا لقائمته، وهو المغرور بعدُ بالقوة التي حازها غداة انتخابات مجالس المحافظات، التي جرت في كانون الثاني( ناير) 2009.

لقد كانت لحظةُ مواجهة المفوضية لطلب المالكي لحظة حاسمة لمبدأ استقلالية الهيئات المستقلة، مع أن تجربة حكومته خلال سنواتها الأربع، وكذلك الحكومات التي سبقتها، قد شهدت إخضاعاً منهجياً لهذه الهيئات، إذ لم تستوعب الثقافةُ السياسية العراقية بعد مبدأَ (الفصل بين السلطات) أو وجود مؤسسات مستقلة مراقِبة ومقيِّدة للسلطة التنفيذية. لنتذكر، فقط، كيف تعاملت هذه الحكومات مع (هيئة النزاهة)، ومع (شبكة الإعلام العراقي)، وسواهما من هذه الهيئات.

إن قوة المفوضية، هنا، تأتي من تعارض المصالح بين الكتل السياسية في إعادة الفرز، وهو ما لم يتوافر في مسألة المقاعد التعويضية، الأمر الذي جعل موقفها ضعيفاً.

هذا التباين في سلوك المفوضية في الحالين يشير إلى واحد من مظاهر الخلل في النظام التوافقي الذي يتبناه العراق، وهو أن تشكل ائتلاف حاكم من سائر الكتل الممثَّلة في البرلمان، أو أقواها، قد منع من نشوء معارضة سياسية برلمانية، هي وحدها التي تعطي حيوية وصدقية وجدية لعمل الهيئات المستقلة، الضامنة لسيرورة النظام الديمقراطي.

وإذا كان الكثير من السياسيين والمحلِّلين قد فسّروا قرارَ الهيئة القضائية الانتخابية، في 19 نيسان الماضي، بإعادة العدّ والفرز في محافظة بغداد بأنه كسر لقوة موقف المفوضية، التي لم تدم طويلاً، فإنني أفترض أن هذا القرار ـ مع ذلك ـ لم يستطع أن يزعزع روحَ هذا الموقف، وذلك لسببين:

1 ـ إن هذا القرار هو استجابة جزئية، ومحدودة ربما، لمطلب المالكي، الذي طالب بإعادة العدّ والفرز في خمس محافظات. فإلى جانب بغداد، التي كان لـ (ائتلاف دولة القانون) الحصة الكبرى من مقاعدها، يعتقد المالكي أنه جرى تلاعب في أصوات جمهوره من الشيعة، في محافظات من قبيل صلاح الدين وديالى وكركوك، وذلك من خلال موظفين في مكاتب المفوضية في هذه المحافظات يحملون ميولا سياسية لقوائم منافِسة، ولا سيما ائتلافا (العراقية) و(الوطني العراقي).

2 ـ يبدو أن ثمة خلافاً جديا داخل إدارة المفوضية على مسألة إعادة العدّ والفرز، فضلاً عن الخلاف بين المفوضية والهيئة القضائية الانتخابية على حدود، وجدوى، وآليات هذه العملية.

إن ثقافة الاستبداد ووحش التسلط اللذين يتنفسان في العراق بقوة، هما اللذان يدفعان بالمالكي إلى الإصرار على إخضاع مفوضية الانتخابات. وهما، بالتأكيد، أقوى من النظام التوافقي ومعنى المعارضة السياسية.

ومع ذلك، ثمة رهان جاد على المعنى الذي قدّمته المفوضية، . . رهان لا تؤسسه التوافقية، التي تجعل إجماعَ الكتل السياسية ورضاها أعلى من القانون، بل تؤسسه ثلاثة عناصر: معارضة قوية ضمن نظام يضمن حيوية سلمية لتعارض المصالح، ومجتمع مدني قوي ومستقل (وسأعود في مقال لاحق إلى الدور المرتجى من مجتمع مدني قوي في عراق ما بعد الانتخابات)، وضمانة والتزام دوليان يشكلان تحديا دائما لثقافة الاستبداد ووحش التسلط.